كثيرا ما يطلق وعاظ السلاطين وعلى رؤوس الأشهاد في
كل زمان ومكان شعاراتهم الخلابة التي تأخذ بالقلوب
لرفيع أدبها وحسن مظاهرها وبالأبصار للمعان بريقها
و كأنهم لصفاء النفوس ملائكة كرام يحملون صحف
النور من الله رب العالمين الى عباده المؤمنين كل
ذلك تزلفا وتملقا لأسيادهم الحكام في الديار
الإسلامية قائلين وأصواتهم قد امتزجت برعشة الخوف
خشوعا وقوة الإيمان صلابة تمثيلا على البسطاء من
الخلق: أيها الناس إعلموا ان الإسلام دين
الإنسانية الذي لا قومية فيه وأن الدولة الإسلامية
لا تحمل صفة القومية والعرقية لأنها دولة الحق
الذي جاء بها الأنبياء والمرسلون الذين جاؤوا
يحملون للبشرية لواء الإنسانية بعيدا عن روح
العصبيات القومية والطائفية النابعة عن قيم
الجاهلية فلا تدنسوا أيها الناس طهر إيمانكم و
وحدة صفوفكم بظلمات وساوس الشياطين وقد قال تعالى
: (أطيعوا الله والرسول و اولي الأمر منكم) فلا
تمزقوا وحدة صفوف الأمة بإحياء سنن الجاهلية
ودوافع العصبية والمطالبة بحقوق لا تنبيء إلا عن
روح قومية جاهلية فتجعلوا أنفسكم عرضة لغضب الجبار
ومحلّا لأخذ الولاة الأخيار فأطيعوا ولاة امركم
الذين فرض الله تعالى طاعتهم عليكم بما جعل لهم من
الولاية فإنكم بذلك تهتدوا الى الرشاد ومسالك رب
العباد.
ثم
يختمون جواهر كلماتهم ببعض الآيات والروايات
مستشهدين بها مكرا و زورا لإذلال الأمة لأصحاب
الفخامة والجلالة والسمو ذوي الولاية المطلقة من
ظلمة حكام السنة والشيعة مصورين للأمة إياهم بأنهم
خلفاء الأنبياء والمرسلين وخلف الأئمة الهادين ثم
يكللون الكلمات بالحمد والثناء على الله تعالى
الذي وفقهم للقيام بمثل هذه الطاعات وعندما يحين
الحين بقدر محتوم للهبوط الى منازل ذل العبودية
بين أيدي أسيادهم و أولياء نعمهم الحكام بعدما
تسلقوا تلك الأعواد في دور العبادة يذهبون
ليتبادلوا واسيادهم دقيق النظرات وهمس الكلمات على
حين غفلة من الأمة يتعانق فيها الرضاء والاعجاب
والشعور بالقيام بالواجب بما يناسب كلا من السيد
الحاكم والفقير العبد الذليل الراجي فضل ربه وهم
وعاظ السلاطين مشترين بذلك سخط الخالق بمرضاة
المخلوق.
أجل هكذا تبتلع الشعوب بحضاراتها وكرامتها وعظيم
حقوقها على حين غفلة بكلمة حق يراد بها باطل حينما
تفسر الآيات والروايات بتبع الهوى وتقدم بأطباق من
ذهب بأحسن شعارات بين أيدي الحكام لإضلال الأمة
وإغوائها و كأن هؤلاء الخطباء ما قرؤوا قوله تعالى
: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند
الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات13 , حيث
تشير الآية الشريفة إلى أن إختلاف الناس شعوبا
وقبائل هو واقع بشري لا يمكن لأي احد تحت أي عنوان
وشعار دينيا كان او مدنيا إنكاره لإضاعة الحقوق و
إلغاء وجود الأمم والشعوب بما لها من الحضارات
والمعتقدات لغة ودينا ومسلكا وكون الكرامة عند
الله بالتقوى شأن إلهي يعود ليوم الحساب بلحاظ
ليصير ميزانا توزن به الأعمال عند رب العالمين لا
ليصبح ذلك في دار الدنيا سببا لإلغاء وجود الآخرين
و تجاوز حدود العدل الذي هو قانون الله تعالى
لكافة الناس اجمعين ولو كانوا غير مسلمين حتى ولو
فرضنا الحاكم نبيا من الأنبياء عربيا كان او
اعجميا فإنه ليس من حقه قهر الشعوب على لغة او
حضارة او دين وهو يعيش لغته وحضارته فضلا عما لو
كان الحاكم كأمثال حكامنا الذين ما شموا يوما من
الأيام رائحة الحق والعدل إلا ما ندر منهم طيلة
هذه القرون التي بها تسلطوا على رقاب المسلمين حيث
وجدوا انفسهم للكبر أنهم الأمة والقانون وأن من
حقهم أن يفعلوا كل شيء وأن على الشعوب أن تطيعهم
وقد راح ليعطي ذلك شرعية وعاظ السلاطين قائلين على
أن على الناس أن تطيع الحكام ولو كانوا فسقة
ظالمين حفظا لوحدة صفوف الأمة و لو بإلغاء الشرع
والعقل والأمة نفسها لأن هذا الإلغاء إنما يكون
لغاية أهم وأنبل وهي قوة جند السلطان التي بها عز
الإسلام.
أجل هكذا أيها الاخوة والأخوات عرّف شرع الله
تعالى للأمم وعاظ السلاطين.
وكلمة
التعارف الواردة في الآية الشريفة مأخوذة من العرف
وهو العدل والمعروف في مقابل ما كان نكرا وقبحا و
أريد منها هاهنا أن تتعارف الأمم والشعوب بعضها مع
بعض على أساس قيم العدل والإحسان على اختلاف
حضاراتها ولغاتها ومسالكها وأديانها ليحصل بذلك
التكامل بدلا من أن تعيش كل أمة بمعزل في زنزانة
أوهام الفخر والكبر العنصري الذي راح ليدفع ببعض
الشعوب للتفاخر والعدوان على الآخرين كما يشاهد
ذلك في كثير من بلداننا الإسلامية بدوافع روح
العنصرية التي هي مدعاة للعدوان و إنكار الآخرين
ونهب خيراتهم و إن لبس ذلك في بعض البلاد
الإسلامية احيانا لباس الدين وجلس فوق منابر سيد
المرسلين وإلا فأي عقل او عرف او دين او ضمير يجيز
لأحد ويجعل من حقه ان يتكلم بلغته ويجبر الآخرين
أن يتكلموا بها ثم يتجاوز الحدود في العدوان
والخروج عن زي الإنسانية والقيم بأن يمنع الأمم
الأخرى من التكلم بلغة الآباء والأمهات ويمنعهم
أيضا حتى من تسمية أبنائهم وبلادهم بما يحبون ثم
يتمتع وراء ذلك كله بخيرات بلادهم ليبني بها
القصور و لتزدهر بها بلاده على حساب الآخرين و
أبناء البلاد أصحاب الخيرات يعيشون الفقر والحرمان
والأكواخ إن لم يجد من حقه أيضا أن يزج بهم في
زنزانات السجون او أن يأخذ بهم الى خشب الصلبان و
وابل النيران.
نعم أراد الله تعالى في هذه الآية الشريفة و غيرها
من الآيات أن يكون هذا التعارف بين الشعوب
والتمازج والتخالط قائما على أسس التقوى في دار
الدنيا حتى لا يجلس الطغيان مكرا و زورا مجالس
العدل فيضيع به الهدى ويصبح الفخر والحقد العنصري
بديلا عن الإخاء والمودة التي أرادها الله تعالى
أن تكون هي الحَكَم الفصل بين عباده جميعا عربا
كانوا او أعاجم ذكرانا كانوا او إناثا حيث أن
بالتعارف القائم على العدل والتقوى يكون حفظ
الحقوق المشتركة بين الشعوب بما لها من الحضارات
لا بإلغاء الآخرين بما لهم من حضارة النابع عن روح
الجهل والحقد والكبر والتخلف التي هي جميعا من قيم
الجاهلية والإسلام منها براء, هدانا الله تعالى
وإياكم الى رفيع مقام الإنسانية و أبعدنا عن تخلف
الجاهلية وظلمات النفاق و المنافقين إنه ولي
التوفيق .
محمد كاظم الخاقاني
|