الأسئلة الكبيرة التي تتفاعل على الأجندات العربية والدولية، بل التي تختلج في نفس وفكر كل عربي من المحيط إلى الخليج، تتعلق في هذه الأيام، بل منذ مطلع الثورات العربية، بمصير ومآلات هذه الثورات -الحراكات- الشعبية العربية، وكذلك بمستقبل المنطقة والشرق الأوسط برمته.
فأي شرق أوسط جديد في الأفق يا ترى؟!
هل نحن أمام شرق أوسط أميركي كذلك الذي اعتدنا عليه على مدى العقود الماضية؟!
أم نحن أمام شرق أوسط أميركي بمضامين إسرائيلية تجري صياغته؟
أم نحن أمام شرق أوسط آخر مختلف عن هذا وذاك.. شرق أوسط جديد بمضامين عربية إسلامية هذه المرة؟!
حلم الشرق الأوسط الإسرائيلي
الواضح أن منطقتنا العربية والشرق أوسطية التي رزحت تحت الاحتلالات والأجندات الاستعمارية البريطانية أو الفرنسية أو الإيطالية أو العثمانية وغيرها على مدى قرون مضت، دخلت منذ ظهور الحركة الصهيونية فالدولة الصهيونية، في فلك جديد، وفي عهد جديد صبغته صهيونية بامتياز، فحتى تلك الأجندات الاستعمارية الغربية تبنت في الجوهر ما يسمى بـ”أطلس الأحلام والأهداف الصهيونية”، وقد عملت المؤسسة الصهيونية على صياغة وبلورة وترجمة أساطيرها المزعومة على شكل أفكار وبرامج ومشاريع ووثائق ومخططات سياسية اقتدت بها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على الدولة العبرية منذ إقامتها عام 1948.
ولذلك فإن أول وأبرز شعار احتل قمة الأجندات والبرامج السياسية والأيديولوجية للأحزاب والحركات الإسرائيلية المختلفة كان حلم “أرض إسرائيل الكاملة”، و”شرق أوسط جديد بروحية صهيونية”، أو “شرق أوسط مدجن”. فقد راود هذا الحلم وما يزال، أقطاب المؤسسة الصهيونية، فاعتبر أقطاب الصهيونية أن “أرض إسرائيل المعلنة” هي تلك الممتدة من مصادر الليطاني حتى سيناء، ومن الجولان حتى البحر، وقد خططوا لاستيعاب الملايين من يهود أوروبا الشرقية متقدمين في ذلك بمقولات ونظريات تمثل جوهر الفكر الصهيوني والرؤية الصهيونية.
وفي هذا النطاق أكد “يسرائيل كولت” وهو أستاذ محاضر في الجامعة العبرية: “أن أرض إسرائيل الصهيونية حسب النظرية الجغرافية والسياسية تلك الراسخة في الفكر أو الواقع هي أرض إسرائيل الممتدة من مصادر الليطاني وحتى سيناء، ومن الجولان حتى البحر، وهي الوطن التاريخي لليهود الذي لا تؤثر فيه الحدود السياسية القابلة للتغير”.
فالواضح تمام الوضوح من المضامين السابقة أن أهداف وأطماع الحركة الصهيونية لا تقف عند حدود فلسطين العربية، بل تتجاوزها -كما تؤكد كتابات كثيرة في الأدبيات الصهيونية- إلى المحيط العربي، بل إن تلك الأهداف والأطماع لا تقف عند مسألة استكمال “الوطن الصهيوني الكبير” كما أراده بن غوريون، بل تتعداها إلى الهيمنة الشاملة على المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
وفي ذلك أكد البروفيسور “إسرائيل شاحك” أستاذ الكيمياء في الجامعة العبرية سابقاً على هذا المضمون ذاته قائلاً: “من الواضح أن السيطرة على الشرق الأوسط بأسره من قبل إسرائيل، هو الهدف الدائم للسياسات الإسرائيلية، وهذه السياسات يشترك فيها داخل المؤسسة الحمائم والصقور على حد سواء، إن الاختلاف يدور حول الوسائل: هل يتم تحقيق الأهداف بالحرب، وهل تقوم بها إسرائيل وحدها أو بالتحالف مع ولحساب القوى الأكبر، أم بواسطة السيطرة الاقتصادية”، مضيفا: “باختصار تدعي إسرائيل لنفسها الحق في إملاء أين تضع سوريا الأسلحة -على سبيل المثال- على الأرض السورية.. ومن المهم أن نتصور أن كل الرأي العام في إسرائيل، موحد حول هذه النقطة.. إن مبدأ السيطرة -المتمثل في أن إسرائيل تستطيع من جانبها أن تملي على دولة مستقلة ماهية الأسلحة الدفاعية التي تضعها على أراضيها- مقبولة من غالبية كبيرة من الرأي العام الإسرائيلي، بما فيها حركة السلام الآن، على عكس الصورة التي يتم الترويج لها في العالمين العربي والغربي”.
إن تلك الأهداف والأطماع الإستراتيجية -التي تشكل ثوابت أساسية- لم تتغير، وهي تتجسد كما نعايشها في المخططات والممارسات العدوانية التوسعية الإسرائيلية اليومية.
حروب أميركية بمضامين إسرائيلية
ولم تبق تلك المخططات والأهداف الصهيونية الشرق أوسطية قصرا على المؤسسة الصهيونية، فبعد أن كانت بريطانيا العظمى تبنت وغذت وحملت المشروع الصهيوني” و”الوطن القومي لليهود في فلسطين” إلى حيز الوجود، فإن الحقيقة الكبيرة الساطعة الملموسة، أن للدولة الصهيونية اليوم مكانه متميزة في إطار الإستراتيجية الأميركية في المنطقة، إذ باتت الإدارة الأميركية تتبنى مخططات ومشاريع الدولة الصهيونية، بل وصلت الأمور إلى أن يتبنى الرؤساء الأمريكيون خطابا توراتيا، تجلى في سلسلة خطابات الرئيس بوش الابن، وتجلى في خطاب الرئيس أوباما الأخير أمام الأمم المتحدة في 21 سبتمبر/أيلول 2011.
فلا نبالغ إن قلنا وأكدنا -وتأكيدنا هنا معزز بالوثائق الغزيرة- أن كل قصة “مشروع الشرق الأوسط الكبير” أو “الأكبر” أو “الصغير الذكي” إنما هي قصة “إسرائيل” وأمنِ وبقاءِ واستمرارِ -ليس وجودها فحسب- وإنما هيمنتها الإستراتيجية المطلقة على المنطقة برمتها أيضا. ولا نبالغ إن قلنا كذلك إن كل قصة “الحرب على الإرهاب” و”ضرب وتدمير وغزو العراق” إنما هي قصة “إسرائيل” في الجوهر والصميم والأبعاد الإستراتيجية.
ولذلك يمكن أن نعتبر شهادة الجنرال الأميركي المتقاعد أنطوني زيني، الذي وضع خطة الحرب ضد العراق في 1991، من أهم الشهادات التي تفضح القصة من أولها إلى آخرها، حينما أعلن وأكد حديثا “في أعقاب صحوة ضميرية متأخرة” أن كل خطة الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين وإعادة تشكيل الشرق الأوسط إنما هي من أجل تعزيز أمن إسرائيل.
وهذا ما ذهب إليه وعززه عضو مجلس الشيوخ الأميركي أرنست فريتس هولينغس في مقالة نشرها في صحيفة “تشارلتون”، فكتب بوضوح قائلا: “إن سياسة الرئيس بوش الخاصة بالدفاع عن إسرائيل هي التي وقفت وراء شن الحرب على العراق”.
لذلك كانت نتائج وحصاد الحرب التدميرية التي شنها التحالف الأميركي البريطاني الاستعماري على العراق العربي، صهيونية إسرائيلية بكل مضامينها وتفاصيلها وأبعادها ونتائجها، سواء المتعلقة أولاً بتداعياتها الإقليمية والشرق أوسطية، أو المتعلقة ثانياً بالقضية والحقوق الفلسطينية وصولاً إلى خارطة الطريق.
فقد كانت “إسرائيل” حاضرة في المشهد العراقي بقوة هائلة، وعلى كافة المستويات النظرية والتخطيطية والميدانية، وكانت حاضرة أيضا في الخلفيات والأبعاد والأهداف.
مصر والمأزق الإستراتيجي الإسرائيلي
وقد لعبت مصر مبارك دورا إستراتيجيا مرعبا في صياغة هذا المشهد الشرق أوسطي الإسرائيلي، كما لعبت دورا مخجلا في تهيئة الأجواء العربية والدولية للعدوان على العراق، وكذلك للعدوان على لبنان، وفي الاجتياحات التدميرية لفلسطين لصالح الأجندة الإسرائيلية، لدرجة أننا بتنا نرى “إسرائيل” وشارون ونتنياهو مجسدة في مبارك وسياساته، التي قال فيها محمد حسنين هيكل “إن الأحداث في الشرق الأوسط أصبحت تسير وفق الأجندة الإسرائيلية”.
غير أن الرياح الشرق أوسطية لم تسر تماما إلى النهاية وفق ما يشتهي ربابنة السفن الإسرائيلية، فجاءت الحراكات والثورات العربية لتقلب كل ا��حسابات رأسا على عقب، وعلى نحو خاص جدا منها ال��ورة المصرية التي -ليس فقط- أنهت حلم “الشرق الأوسط الإسرائيلي”، بل وضعت “إسرائيل” في مأزق إستراتيجي لم يخطر ببال قادتها على مدى الأربعين عاما الماضية من عمر الصراع.
فباتت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تقلق أكثر ما تقلق مما يجري في مصر، وباتت العيون الإسرائيلية الأميركية تتابع وتترصد ما يجري في قلب مصر، وأخذت تحرص على الحفاظ على الوضع الراهن هناك حتى في ظل المجلس العسكري المصري، بمعنى ترسيخ وتثبيت النظام السياسي المصري الحريص على معاهدة “كامب ديفيد”، وكي لا تذهب التطورات إلى نظام سياسي آخر يناهض وجود “إسرائيل” ويحول مصر ثانية إلى ما تذهب إليه الرؤية الإستراتيجية الإسرائيلية التي تعتبر أن مصر ما تزال تشكل بالنسبة لهم “تهديدا وخيارا هجوميا”.
وقد عبر آفي ديختر -رئيس الشاباك ووزير الأمن الداخلي الإسرائيلي سابقا- عن هذه الرؤية تجاه مصر في محاضرة ألقاها في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي قائلا: “إن عيوننا وعيون الولايات المتحدة ترصد وتراقب -بل وتتدخل- من أجل كبح مثل هذه السيناريوهات”.
خريطة جديدة بمضامين عربية إسلامية
غير أن هذا الذي جرى ويجري على امتداد خريطة العرب أخذ يحرق الوعي لديهم، ويقلب حساباتهم الإستراتيجية، وأخذ يشي بخريطة عربية إسلامية جديدة تصوغها الشعوب العربية عبر ثورات بمقاييس لم تأت في حساباتهم، خريطة تثير هواجس البقاء والوجود لدى الدولة الصهيونية، وهذا ليس كلاما إعلاميا استهلاكيا.
فمنذ أن بدأ الحراك الشعبي العربي لم تتوقف عمليا أبواق الغضب والتشاؤم الصهيونية عن التنبؤ بمستقبل مظلم لـ”إسرائيل”، حيث تتوقع تلك الأبواق تطورات تشكل تهديدا وجوديا لمستقبل دولتهم، لذلك يطرحون في الدولة الصهيونية اليوم كافة القضايا الساخنة على أجندات الجدل الاستشرافي المتعلق بمستقبل تلك الدولة.
وفي هذا السياق تتزاحم التحليلات والرؤى الإستراتيجية المتشائمة لديهم، فحسب المحلل السياسي الإسرائيلي إيتان هابر مدير مكتب رئيس الوزراء إسحق رابين في النصف الأول من التسعينيات فـ”إن ثمة ثلاثة عوامل تشكل مجتمعة تهديدا وجوديا على إسرائيل وتتطلب التعامل معها ليس بالقوة العسكرية بل بالحكمة والتعقل السياسي، وهي: الربيع العربي، وجهود نزع الشرعية عن إسرائيل”، وما أسماه بـ”التهديد الديمغرافي”، ويتوقع هابر “أن تحكم البلدان العربية قوى إسلامية راديكالية مناهضة لإسرائيل، الأمر الذي يعني محاصرة إسرائيل بطوق من الدول المعادية، التي لا تعترف بحق إسرائيل في الوجود”، ويضيف: “سنكون عمليا تحت حصار إسلامي متطرف يشتد شيئا فشيئا وسيتطلب منا ذلك أشد حالات التأهب، واليقظة الدائمة” (معاريف 27/11/2011).
وها هو جنرالهم بنيامين بن إليعازر يحذر من: “أن التطورات الأخيرة في مصر تدل على أنه مع الزمن ستجد إسرائيل نفسها في مواجهة جبهوية مع مصر، ولهذا فمن المجدي لنا أن نبدأ بالاستعداد للمواجهة” (يديعوت أحرونوت 15/11/2011)، ليعود بعد أيام ليجدد تحذيره من خطورة الأوضاع في مصر على مستقبل الأمن في المنطقة ومستقبل الدولة العبرية في ضوء اكتساح التيارات الإسلامية للانتخابات، قائلا للإذاعة العبرية الرسمية 3/12/2011: “الأوضاع تغيرت والمستقبل غير مضمون ومظلم”. ومن جهتها قالت مصادر أمنية إسرائيلية “إن الأخطار الأمنية تتزايد، وإن على إسرائيل التحرك بسرعة قبل تمكن الإسلاميين من حكم مصر مما يجعل التحرك ضد الحركات الإسلامية بغزة وحزب الله في لبنان والملف النووي الإيراني مستحيلا”.
وفي السياق التشاؤمي كذلك، قال وزير الحرب الإسرائيلي إيهود باراك “إن النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية المصرية هي مقلقة جداً ومزعجة للغاية”.
يضاف إلى ذلك سلسلة طويلة من التقديرات والتصريحات التي تبث القلق والتشاؤم الصهيوني إزاء نتائج الانتخابات في تونس والمغرب ومصر والنتائج المنتظرة أيضا في بلدان عربية أخرى.
لكل ذلك فهم يستخلصون: أن المنطقة تتجه نحو “شرق أوسط آخر أكثر معاداة لإسرائيل” (إسرائيل زيف، معاريف 16/9/2011)، وأن “إسرائيل توجد في دوامة من التدهور الإقليمي”، و”أن الشرق الأوسط “موديل” 2011 يقول وداعاً للسلام”. كما تنبأ كاتبهم آري شبيط في هآرتس، قائلا: “قولوا وداعاً جميلاً للسلام مع سوريا… قولوا وداعاً جميلاً للسلام مع فلسطين… قولوا وداعاً جميلاً للهدوء… فالمناعة لن تبقى إلى الأبد… قولوا وداعاً جميلاً لكل ما اعتقدتموه حتى كانون الثاني 2011… فالشرق الأوسط تغير من الأساس… الواقع هو سيّال ثوري… ما عادت توجد قاعدة صلبة للسلام على شاكلة مصر”.
مما يقودنا بالتالي إلى استخلاصات أكبر وأهم: بأن ما يقلق تلك الدولة الصهيونية يجب أن يشكل بوصلة للآمة العربية، وما يهدد تلك الدولة يجب أن يصوغ الإستراتيجيات العربية مستقبلا، وأن تلك الخرائط الأميركية الإسرائيلية التي استهدفتنا، يجب أن تحل محلها خريطة طريق عربية حقيقية تنتصر للأمة وللحقوق العربية ولفلسطين، مما يعيد الأوضاع إلى أصولها ودوائرها الأولى.. وإلى الصراع الحقيقي الجذري مع المشروع الصهيوني.