ما الذي يعنيه المرء حين ينادي بالهويّة الخاصة..؟ هل تشير إلى جوانب من التميّز والخصوصية أم إلى حالات من التقيّد والتقوقع..؟ هل يمكن التوافق على تعريف جامع مانع للهويّة بعيداً عن أيّ تفصيل من تفاصيل الاستعلاء على الآخر وبمعزل عن تضخيم الذات أو الشعور بالأهمّيّة والتفوّق على الآخرين..؟ لماذا قد تصبح الهوية قيداً مضافاً في ظلّ الثورات المتتالية على القيود..؟ يفترض بالهويّات أن تكون في حالة تصارع وتعارك دائمة..؟
من جهة أخرى هل يفترض التملّص من الهويّة والتحلّل منها كإثم لإرضاء المنادين بتجاوز القيود المفترضة..؟ وهل يكون الخيار بين التحلّل والتهرّب أو الفرض والتجبّر..؟ هل حقّاً تنعدم سبل التوصّل إلى صيغ مناسبة معاصرة تحترَم فيها الخصوصيّات والهويّات في إطار التعايش المشترك المبني على الاحترام والتقدير..؟
رغم التعريفات الكثيرة التي تقارب مفهوم الهويّة، إلّا أنّ هناك اختلافاً قارّاً يتفعّل في أكثر من بؤرة، ذلك أنّ الانطلاق من الجانب المركزيّ في التعامل مع الآخر يتسبّب بالكثير من حالات اللبس، ويفرض بدوره سوء تفاهم ويحول دون تحقيق التواصل المنشود.
حين ينطلق كلّ طرف من مركزيّة متوهّمة يُشعر معها الآخر بالهامشيّة المصدّرة، أو التهميش المواكب، يكون ردّ الفعل الطبيعيّ، وغير الطبيعيّ في الوقت نفسه، هو التعامل بالمثل، والتمركز، ثمّ تصدير الأحكام، وإملاء الافتراضات، وقد يصل الأمر إلى سوق الاتّهامات وتلفيقها في مسعى لتعزيز المكانة بين جمهوره، وتدعيم صورة المتفرّد التي يسعى لتعميمها في محاولة لإثبات الحقّ في القيادة والسيادة والتفوّق.
ترتفع الأصوات في أكثر من مكان في العالم، منادية للتعايش، ومُدينة أيّ مزاعم بالتفوّق، وبخاصّة من قبل الغرب على الشرق، وعلى العالم الثالث، حيث تتمّ التهيئة لأرضيّة مشتركة بعيداً عن نيران العنف المستعرة في عدّة بقاع من العالم، والتي تشكّل بدورها حواضن لعنف متّسع باطّراد يكتسب موجبات ديمومته واستمراره وتفعّله من إهمال القوى المتحكّمة لتلك البقاع وتركها مكوّنات تلك البلدان في حالة احتراب، ما يبقيها في أتون حروب متجدّدة، ويفرض على أبنائها اللوذ بوسائل حمائيّة بدائيّة.
جسور الشغف
يقام في بريطانيا مهرجان سنويّ يقدّم فيه المهاجرون من شتّى الأماكن أزياءهم التراثيّة المعبّرة عن هويّتهم الخاصّة، تلك التي تكمّل اللوحة الإنسانيّة إلى جوار الهويّات التي تشكّل تفاصيل اللوحة المميّزة. ومثل هذا التقليد يهدف إلى الاحتفاء بالخصوصيّات والهويّات في إطار التعايش والسلام، بعيداً عن أيّ صهر أو هيمنة، بل من باب التنوّع والثراء الإنسانيّين.
وفي مثال آخر على بلورة صيغة مميّزة للهويّة الوطنيّة يرسم الباحث والصحافي البريطاني أليكس بيلوس في كتابه “كرة القدم.. الحياة على الطريقة البرازيلية” خريطة لتطور البرازيل وتنوعها وتقدمها انطلاقاً من مركزية كرة القدم. ويذكر بيلوس أن كرة القدم وصلت إلى البرازيل بالتزامن مع الصحوة القومية للبلاد التي تحولت إلى النظام الجمهوري سنة 1889 وكانت في طور البحث عن سمات هويتها الخاصة، وهكذا أصبحت هذه اللعبة أحد الرموز التي تبناها أبناء هذا الشعب في أثناء بحثهم عن هويتهم.
يقول اللاعب البرازيلي الشهير سقراط برازيلير “إن الشغف الحقيقي هو ما يحركني، ويحرك هذه الأمة التي أنتمي إليها، فليست هناك أمة مماثلة يقودها الحب ويسيرها الشغف مثل الأمة البرازيلية، فنحن في هذا البلد محاطون بالسعادة والإثارة والعفوية والإبداع حيث تلمح الأمل والبِشر على الوجوه جميعها، حتى تلك التي لم يحالفها الحظ في الحياة، فالجميع يؤمنون ببناء مجتمع جديد حر، بعيداً عن الخوف وتكميم الأفواه، مجتمع يؤمن بالمعرفة والحرية للجميع، ويفتح أبواب الأمل للفئات جميعها من دون استثناء”.
يضيف سقراط قائلاً “إن هذا الشعب الذي كان مستعبداً، يطلق صرخات الحرية كل يوم بحثاً عن حقيقته وجوهره، يدفعه تراث عميق، وثقافة تنبع من الروح الخالصة لهذا الشعب بفئاته كلها: بيض وسود وهنود ومهاجرون، فهو يعرف فعلاً ما يريد حتى ولو لم يدرك ذلك، ويحب كل ما حوله، ويعتصر الحكمة من كل ما يراه بعفوية مطلقة وتقدير عميق. ويحب كرة القدم أيضاً. وهي رياضة تعتمد على العفوية، تلهبها الحرية، وتسيرها البصيرة النافذة، ويحميها الشغف، مثل رقص السامبا البرازيلي تماماً الذي يجري في دمائنا، ويتقنه أبناء شعبنا بالوراثة”.
اقتفاء المشترك
الروابط المشتركة بين الشعوب تزيد فرص التواصل والتعايش. ومن هنا يناقش المفكّر البريطانيّ جاك غودي في كتابه “الشرق في الغرب” الطروحات التي تنطلق من القول بميزة طويلة الأجل للغرب، وكيف أنّها لا تضع في اعتبارها حقيقة أنه خلال القرون الوسطى كان الشرق هو السابق في كثير من الميادين، وفضلاً عن ذلك فمثل هذا الجدل تجاوزه الزمن بفعل الأحداث المستجدة مؤخراً في آسيا، إلى جانب النمو السريع للاقتصاد والتكنولوجيا ونظم المعرفة، أولاً في اليابان، والآن في عدد من سائر دول المنطقة.
يرى غودي أنّ تقسيم العالم إلى أول وثانٍ وثالث يعاني من خلل بنيويّ، ويجد أنّ ذلك ربما يصدق في سياقات قليلة، لأن التقسيم يطال بنية المجتمعات نفسها. ويقول إنّه حتى لو اضطر بوضوح لإجراء بعض التصنيفات العريضة، فمن الخطأ إدراج مجتمعات كبرى في آسيا وأفريقيا ضمن الفئة نفسها، وهو خطأ سواء من وجهة نظر التطور المعاصر أو من ناحية تاريخ الثقافات.
يستعين غودي بجوانب من التاريخ المشترك، وإن كان الغرب يكون في دور المستعمر، والشرق خاضعاً للاستعمار ومحاولاً التخلص منه في الوقت نفسه، وما لذلك من تداخل أثّر على مختلف الجوانب، وأنتج ثقافة امتزجت فيها جوانب من مختلف الثقافات المتداخلة فيما بينها. ويعتقد أنّ الصلات التي تربط الشرق بالغرب ترجع بوضوح إلى عالم بلاد ما بين النهرين، فقد شهدت تلك البلاد كثيراً من الملامح المشتركة لحضارة العصر البرونزي. كما يشير إلى بعض المدن والأماكن التي كانت جسوراً لنقل الحضارات ولعب دور المؤثر والمتأثر والناقل، كأثينا مثلاً. يجد غودي أنّ الشرق والغرب يمارسان أدوار التأثير والتأثر تاريخيا وراهنا، ذلك أنّ الأفكار والتقنيات والمواد تتنقل مع المهاجرين والتجار واللاجئين من بلاد إلى أخرى، ولا يبقى مكان بمعزل أو منأى عن التغير والتغيير. ويستمرّ تصدير الأفكار والبضائع من مكان إلى آخر بين الشرق والغرب. ويجزم أنّه ما كان ليحدث هذا قط في ظل ذلك النوع من العزلة المطلقة لأحدهما عن الآخر على نحو ما تومئ إليه التمييزات القاطعة بين هاتين المنطقتين، أو يجسده الشعار الذي ما برح يرفعه كثير من النظريات والافتراضات الاجتماعية والتاريخية الحديثة.
تشنج متجدد
يظلّ الشرق والغرب طرفَي معادلة تتجاذبها المتناقضات المتجلية في المصالح والهيمنة والنفوذ، والمتبدّية في بحر صراع الهويّات أو تعاركها، لذلك فإنّ العلاقة تظلّ في طور التشنّج، ويحافظ الطرفان على مسافة مفترضة بينهما خشية من تنامي النزعات العنصرية؛ المتفاقمة أصلاً.
حاول عدد من الكتّاب مقاربة العلاقة المتشنّجة بين الطرفين، وجاهدوا لطرح رؤى تنتصر للحقّ والعدالة، حيث تحتفظ الهويّات بألقها وخصوصيّتها وتساهم بجمالية في رسم الصورة العالميّة المنشودة. من هؤلاء النمساويّ هانس كوكلر الذي يذكر في كتابه اللافت «تشنّج العلاقة بين الغرب والمسلمين» أنّ همّه الأساسي كان الانكباب على محاولة فهم نتائج الوضع العالمي الجديد أحادي القطب الذي عوّض الثنائية القطبية القديمة وأثّر في العلاقة بين الحضارات وسلطة القانون والديمقراطية، ويحاول في وجهات نظره الرد على وقائع السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن العولمة.
تناول كوكلر المسؤولية الأخلاقية والقانونية الجماعية والفردية في القانون الدولي المعاصر، ومدى التناقض بين النظرية والممارسة، وارتهان القانون للقوّة والرغبة والمصالح. ويعترف بأن نظرية القانون الدولي الراهنة تغفل تماماً قضايا حقوق الإنسان وقضايا المسؤولية وثيقة الصلة بهما، ويجد أن ذاك النقص يتفاقم بسبب كون سياسة العقوبات قد تؤدي إلى خرق فادح لحقوق الإنسان لجيلٍ كاملٍ من شعب ما.
صراع حضاري
وفي محاولته لاستجلاء دوافع الصراع الخفي المستعر، والعلاقة المتشنجة، ونظراً لظهور بوادر صراع طويل الأمد، ليس فقط على المستوى العسكريّ، بل على المستوى الحضاري كذلك، فإنه يعتقد بأن من الواجب على الحوار الأوربي العربي أن يصبح شاملاً ولا يجب تأسيسه على المصالح فقط، بل تعميمه على ميادين تعاون أخرى لكي يصبح حوار الأنداد بين الفرقاء على ضفتي المتوسّط. ويطرح أفكاره ورؤاه للحلول المقترحة عبر إعادة إنعاش العلاقات العلمية والثقافية بين الضفتين وإحيائها، ومن الضروري أن يسجل هذا الإحياء كأسبقية في العمل الدبلوماسي وأن يعي المثقفون في كلتا الثقافتين أنه رسالة على عاتقهم. كما يعتقد بضرورة الحاجة إلى خلق إطار جديد لصيرورة متكافئة متوازنة بين العالمين العربيّ-الإسلاميّ والغربي، دون محاولة التعالي أو إعطاء دروس للآخر.
يجد كوكلر أن الحاجة ماسّة وعاجلة إلى نقد فلسفي أخلاقي لميثاق الأمم المتحدة الحالي، يأخذ في الاعتبار الميثاق كما تفسره بالفعل القوى العظمى التي تستغل بنوده لمصالحها، وتتهرب من مسؤولياتها، وتتمتع بالحصانة من المساءلة والمحاسبة. كما يوجه تحذيره إلى أوروبا، وينبهها إلى أنّها إن كانت تريد أن تلعب دورا في السياسة العالمية وإن كانت تريد عدم المقامرة بمشروع وحدتها، فإن من الواجب عليها إعادة النظر في إرث الدولة الوطنية وإعادة تحديد مبادئ التعدد الثقافيّ، ويعتقد في هذا المجال أنّ بإمكان الفلسفة أن تلعب دوراً مهمّاً في هذه العملية، لحياديّتها فيما يتعلّق بتصورها للعالم من جهة، ولأنها في العمق تخصص يؤمن بتعدّدية التخصّصات. ويؤمن أنّه لا يمكن القضاء على خطر تنامي الفروق بين الدوائر الثقافية، وما يدعى بـ«صراع الحضارات» إلّا بتكثيف حوار مفكّري مختلف الدوائر الثقافيّة.
مؤسف أن تتبدّى الهويّات؛ وضمنا التكتّلات البشريّة التي تمثّلها، كأنّها في حلبة صراع أزليّ، أو كأنّها تستكمل ثأراً عصيّاً على التحقّق، وتظلّ جرحاً في فضاء التسامح والتعايش والتكامل، وكثيراً ما يدعو المتنوّرون والأدباء والمفكّرون إلى تخطّي حالة السبات والقولبة وتجاوزها نحو آفاق أرحب، حيث تتمّ رؤية الآخر كشريك وأخ لا جحيما وعدوّا متربّصا.
بالعودة إلى إشكاليّة الذات والآخر في صياغة منمنمة الهوية، يبدو أحد طرق التصالح والخلاص متمثّلاً في مسألة أن يدرك الناس أبعاد ولائهم للإنسانيّة بعيداً عن الاحتكار والعنصريّة والتفوّق والشعوبيّة، تصبح الهويّات جسوراً للشغف والثراء، تتجاوز واقعها كسلاسل للعنف المتنامي في بحيرات الدماء وبراكين الأحقاد.
————
المصدر : العرب